سورة نوح - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (نوح)


        


يقول الحق جلّ جلاله: {إِنَّا أرسلنا نوحاً} وهو أول أُلي العزم. قيل: معناه بالسريانية: الساكن، وقيل: سمي له لكثرة نوحه شوقاً إلى ربه، {أنْ أَنْذِر قَوْمَكَ} أي: بأن أنذر، فحذف الجار وأوصل الفعل، ومحله عند الخليل: الجر: وعند غيره: نصب، أو: أنْ مفسرة؛ لأنَّ الإرسال فيه معنى القول، فلا يكون للجملة محل، وقرئ: {أنذر} بغير أنْ، أي: خوّف قومك {مِن قبل أن يأتيهم عذابٌ أليم}؛ عذاب الآخرة، أو الطوفان، لئلا يبقى لهم عذر أصلاً.
{قال يا قوم}، أضافهم إلى نفسه إظهاراً للشفقة {إِني لكم نذير مبينٌ}؛ مُنذِر موضّح لحقيقة الأمر، أُبين لكم رسالة ربي بِلُغةٍ تعرفونها، {أنِ اعبدُوا اللهَ} أي: وحّدوه وأنْ هذه نحو: {أن أنذر} على الوجهين، {واتقوه}؛ واحذروا عصيانه، {وأطيعونِ} فيما آمركم به وأنهاكم عنه، وإنما أضافه إلى نفسه؛ لأنَّ الطاعة تكون لغير الله بخلاف العبادة، وطاعته هي طاعة الله.
{يغفرْ لكم من ذنوبكم} أي: بعض ذنوبكم وهو ما سلف في الجاهلية، فإنَّ الإسلام يَجُبُّه، إلاّ حقوق العباد؛ فإنه يؤديها، وقيل: {مَن} لبيان الجنس، كقوله: {فاجتنبوا الرجس مَنَ الأوثآن} [الحج: 30]. قال ابن عطية: وكونها للتبعيض أبين؛ لكونه لو قال: يغفر لكم ذنوبكم؛ لعَمّ هذا اللفظ ما تقدّم به من الذنوب وما تأخر عن إيمانهم، والإسلام إنما يَجُب ما قبله. اهـ. قال القشيري: ولأنه لو أخبرهم بغفران ما تقدّم وما تأخّر لكان إغراءً لهم، وذلك لا يجوز. اهـ. {ويُؤخِّرْكُم إِلى أَجَلٍ مُسَمَّى} وهو وقت موتكم، فتموتون عند انقضاء آجالكم الذي تعرفونه من غير غرق ولا هلاك استئصال، فإن لم تؤمنوا عاجَلَكم بالعذاب، فيكون هو آجالكم، ولمّا كان ربما يتوهم أنَّ الأجل قد يتقدّم، رَفَعَه بقوله: {إنَّ أَجَلَ اللهِ} وهو الموت عند تمام الأجل {إِذا جاء لا يُؤخَّرُ لو كنتم تعلمون} أي: لو كنتم تعلمون لسارعتم إلى الإيمان قبل مجيئه، فلا حُجة فيه للمعتزلة. وانظر ابن جزي.
الإشارة: قال القشيري: إنَّا أرسلنا الروح إلى قومه، وهم: النفس والهوى وصفاتهم الظلمانية الطبيعية؛ أن أنذرهم عن المخالفة الشرعية، مِن قبل أن يأتيهم عذاب القطيعة، قال: يا قوم إني لكم نذير بيِّن الإنذار، أن اعبُدوا الله، بأن تُحبوه وحده، ولا تُحبُّوا معه غيره، من الدنيا، وشهواتها وزخارفها، واتقوا بأن لا تروا معه سواه، وأطيعوني في أقوالي وأفعالي وأخلاقي وصفاتي، يغفر لكم ذنوب وجودكم، فيُغطيه بنور وجوده، ويُؤخركم إلى أجلٍ مسمى، بتسْمية الأزل، إنَّ أجل الله بالموت الحسي والمعنوي، لا يُؤخَّر، لو كنتم تعلمون، لكن انهماككم في حب الدنيا بعّد عنكم الأجل. اهـ. بالمعنى.


يقول الحق جلّ جلاله: {قال} نوح شاكياً إلى الله تعالى: {رَبِّ إِني دعوتُ قومي} إلى الإيمان والطاعة {ليلاً ونهاراً} دائماً بلا فتور ولا توان، {فلم يَزِدْهُم دعائي إِلاَّ فِراراً} مما دعوتهم إليه، ونسب ذلك إلى دعائه لحصوله عنده، وإن لم يكن في الحقيقة سبباً للفرار، وهو كقوله: {وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا} [التوبة: 125]، والقرآن لا يكون سبباً لزيادة الرجس، لكن لمّا حصل عنده نُسب إليه، وكان الرجل منهم يذهب بابنه إلى نوح عليه السلام ويقول له: احذر هذا، فلا يعرنّك، فإنّ أبي قد أوصاني بهذا. اهـ.
{وإِني كلما دعوتُهم} إلى الإيمان بك {لتغفرَ لهم} أي: ليؤمنوا فتغفر لهم، فاكتفى بذكر المسبَّب، {جعلوا أصابعَهم في آذانهم} أي: سدُّوا مسامعهم لئلا يسمعوا كلامي، {واستَغْشوا ثيابَهُم} أي: وتغطُّوا بثيابهم لئلا يُبصروني، كراهة النظر إلى وجه مَن ينصحهم في دين الله، {وأصَرُّوا}؛ أقاموا على كفرهم {واسْتَكْبَروا استكباراً} أي: تعاظموا عن إجابتي تعاظماً كبيراً. وذِكْرُ المصدر دليل على فرط استكبارهم.
{ثم إِني دَعَوتهم جِهاراً} أي: مجاهراً، فيكون حالاً، أو: مصدر دعوت، كقعد القرفصاء؛ لأنّ الجهار أحد نوعَي الدعاء. يعني: أظهرت الدعوة في المحافل والمجالس. {ثم إِني أعلنتُ لهم وأَسررتُ لهم إِسراراً} أي: جَمَعْتُ لهم بين دعاء العلانية والسر، فكنتُ أدعو كل مَن لقيت، فرداً وجماعة. والحاصل: أنه دعاهم ليلاً ونهاراً في السر، ثم دعاهم جِهاراً، ثم دعاهم في السر والعلن، وهكذا يفعل المذكِّر في الأمر بالمعروف، يبتدىء بالأهون فالأشد، افتتح بالمناصحة بالسر، فلما لم يُطيعوا ثنّى بالمجاهرة، فلما لم تؤثر ثلّث بالجمع بين الإسرار والإعلان. و{ثم} تدل على تباعد الأحوال؛ لأنَّ الجِهار أغلظ من الإسرار، والجمع بين الأمرين أغلظ من إفراد أحدهما.
{فقلتُ استغفِروا ربكم} بالتوبة من الكفر والمعاصي فالاستغفار: طلب المغفرة، فإن كان المستغفِر كافراً فهو من الكفر، وإن كان مؤمناً فهو من الذنوب، {إِنه كان غفَّاراً} لم يزل غَفَّار الذنوب لمَن يُنيب إليه، {يُرسل السماءَ} بالمطر {عليكم مِذراراً}؛ كثير الدُّرور، أي: البروز، ومِفعال يستوي فيه المذكر والمؤنث، {ويُمددكم بأموال وبنينَ} أي: يزدكم أمولاً وبنين على ما عندكم، {ويجعل لكم جنات}؛ بساتين {ويجعل لكم أنهاراً} جارية لمزارعكم وبساتينكم. وكانوا يُحبون الأموال والأولاد، فحرّكوا بهذا على الإيمان، وقيل: لمّا كذّبوه بعد طول تكرار الدعوة حبس الله عنهم القطر، وأعقم نساءهم أربعين سنة، أو سبعين، فوعدهم نوح أنهم إن آمنوا رزقهم الله الخِصب، ورفع عنهم ما كانوا فيه. وعن عمر رضي الله عنه: أنه خرج يستسقي فما زاد على الاستغفار، فمُطر فقيل له: ما رأيناك استسقيت؟ فقال: لقد استقيت بمجاديح السماء التي لا تخطىء، ثم قرأ الآية.
وفي القاموس: ومجاديح السماء: أنواؤها. اهـ. وشكى رجلٌ إلى الحسن الجدوبة، فقال له: استغفِر الله، وشكى إليه آخر الفقر، وآخر قلة النسل، وآخر قلة غلة أرضه، فأمرهم كلّهم بالاستغفار، فقيل له في ذلك، فقال: ما قلت من عندي شيئاً، ثم تلا الآية.
{ما لكم لا ترجون لله وَقَاراً} أي: لا تخافون لله عظمةً. قال الأخفش: الرجاء هنا: الخوف؛ لأنّ مع الرجاء طرفاً من الخوف واليأس. والوقار: العظمة. وقال أبو السعود: الرجاء هنا بمعنى الاعتقاد. وجملة {ترجون}: حال من ضمير المخاطبين، و{لله} متعلق بمضمر، حال من {وقارا}، ولو تأخر لكان صفة له، أي: أيُّ سبب حصل لكم حال كونكم غير معتقدين لله تعالى عظمة موجبة للتعظيم بالإيمان والطاعة. اهـ. أو: لا تأملون له توقيراً، أي: تعظيماً، والمعنى: ما لكم لا تكونون على حال تأملون فيه تعظيم الله إياكم في دار الثواب، {وقد خَلَقَكم أطواراً} في موضع الحال، أي: ما لكم لا تؤمنون بالله، والحال أنكم على حال منافية لِما أنتم عليه بالكلية، وهي أنكم تعلمون أنه خلقكم أطواراً، أي: أحوالاً مختلفة، خَلَقَكم أولاً نُطفاً، ثم خلقكم علقاً ثم مُضغاً، ثم عظاماً ولحماً، ثم إنساناً، ثم خلقاً آخر، وبعد ظهوره إلى هذا العالم يكون شباباً، ثم كهلاً، ثم شيخاً، بالتقصير في توقير مَن هذه شؤونه من القدرة القاهرة والإحسان التام، مع العلم بها، مما لا يكاد يصدر عن العاقل. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ينبغي للداعي أن يكون على قدم أولي العزم، لا يمل من التذكير والدعاء إلى الله، ويكرر ذلك ليلاً ونهاراًن ولو قُوبل بالرد والإنكار، فلأن يهدي الله به رجلاً واحداً خير له مما طلعت عليه الشمس. وقوله تعالى: {وأصَرُّوا واستكبروا}، قال القشيري: ويقال: لَمَّا دام إصرارهُم تَولَّدَ منه استكبارُهم، قال تعالى: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد: 16]. وقال الورتجبي: مَن أصرَّ على المعصية أورثه التمادي على الضلالة، حتى يرى قبيح أفعاله مستحسناً، فإذا رآه مستحسناً يستكبر، ويعلو على أولياء الله، ولا يقبل بعد ذلك نصحتهم. قال سهل: الإصرار على الذنب يورث الاستكبار، والاستكبار يورث الجهل، والجهل يورث التخطي في الباطل، وذلك يورث قساوة القلب، وهي تورث النفاق، والنفاق يورث الكفر. اهـ.
وقوله تعالى: {استغفِروا ربكم} قال القشيري: ليعلم العاملون أنَّ الاستغفار قَرْعُ أبوابِ النعمة، ومَن وقعت له إلى الله حاجة فلا يَصِل إلى مرادِه إلاّ بتقديم الاستغفار. ويقال: مَن أراد التفضُّل فعليه بالعُذْر والتنصُّل. اهـ. وقوله: {ما لكم لا ترجون لله وقاراً} أي: ما لكم لا تعتقدون لله تعظيماً وإجلالاً، فلا تراقبونه، ولا تخافون سطوته، فإنَّ المشاهدة على قدر المراقبة، فمَن لم يُحْكِم أمر المراقبة لم يظفر بغاية المشاهدة. وقد خلقكم أطواراً، أي: درّج بشريتكم في أطوار مُختلفة، وهي سبعة: النطفة، ثم العلقة، ثم المضغة، ثم الجنين، ثم الطفولية، ثم الكهولة، ثم الشيخوخة، ثم يرتحل إلى دار الدوام، وكذلك الروح لها سبعة أطوار: التوبة ثم الورع، ثم الزهد، ثم التوكُّل، ثم الرضاء والتسليم، ثم المراقبة، ثم المشاهدة. والله تعالى أعلم.


يقول الحق جلّ جلاله: {ألم تَرَوْا كيف خلق اللهُ سبعَ سمواتٍ طباقاً} أي: متطابقة بعضها فوق بعض، والرؤية هنا علمية؛ إذ لا يُرى بالبصر إلاَّ واحدة، وعُلِّقت بالاستفهام، وعلمهم بذلك من جهة الوحي السابق، أو كانوا منجّمين، {وجعلَ القمرَ فيهن نوراً} أي: يُنور وجه الأرض في ظلمة الليل، ونسبتُه إلى الكل مع أنه في سماء الدنيا؛ لأنَّ بين السموات ملابسة، من حيث إنها طباق، فجاز أن يقال: فيهن، وإن لم يكن في جميعهن، كما يُقال: في المدينة كذا، وهو في بعض جوانبها. وعن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم: إن الشمس والقمر وجوههما مما يلي السموات، وظهورهما مما يلي الأرض. فيكون نور القمر سارياً في جميع السموات؛ لأنها لطيفة لاتحجب نوره. {وجعل الشمسَ سِراجاً}؛ مصباحاً يزيل ظلمة الليل، ويُبصر أهلُ الدنيا في ضوئها وجه الأرض، ويُشاهدون الآفاق، كما يُبصر أهل البيت في ضوء السراج ما يحتاجون إلى إبصاره، وليس القمر بهذه المثابة، إنما هو نور في الجملة، فنور الشمس أقوى، ومنه يستمد نور القمر، وأجمعوا أنَّ الشمس في السماء الرابعة.
{واللهُ أنبتكم من الأرض نباتاً} أي: أنشأكم منها، فاستغير الإنبات للإنشاء؛ لكونه أدل على الحدوث والتكوُّن من الأرض. و {نباتاً} إمّا مصدر مؤكد لأنبتكم، بحذف الزوائد، ويسمى اسم مصدر، وحكمة إجراء اللفظ فيه على غير فعله: التنبيه على تحتُّم القدرة وسرعة نفوذ حكمها، حتى كأنَّ إنبات الله تعالى نفس النبات، فقرَن أحدهما بالآخر، ونحوه قوله تعالى: {أّنِ اضرب بِعَصَاكَ الحجر فانبجست} [الأعراف: 16] أي: فضرب فانبجست، فجعل الانبجاس مسبباً عن الايحاء، للدلالة على سرعة نفوذ حكم القدرة، أو: لفعل مترتب عليه، أي: أَنبتكم فنبتم نباتاً، {ثُم يُعيدكم فيها} بعد الموت {ويُخرجكم} يوم القيامة بالبعث والحشر {إِخراجاً} محققاً لا ريب فيه، ولذا أكّده بالمصدر.
{واللهُ جعل لكم الأرضَ بِساطاً} تتقلبون عليها تقلُّبكم على بُسُطكم في بيوتكم. قال ابن عطية: وظاهر الآية أنَّ الأرض بسيطة غير كُروية، واعتقاد أحد الأمرين غير قادح في الشرع، إلاّ أن يترتب على القول بالكوريّة قول فاسدٌ، وأما اعتقاد كونها بسيطة فهو ظاهر في كتاب الله، وهو الذي لا يلحق عنه فساد البتةَ، واستدل ابن مجاهد على ذلك بماء البحر المحيط بالمعمور، قال: لو كانت الأرض كروية لما استقر الماء عليها. اهـ. المحشيّ الفاسي: وهو بعيد؛ لأنَّ أهل الهيئة يرون أنها مستقرة فيه اي: في البحر لا العكس، ولذلك أُرسيت بالجبال لتستقر، كما عُلم من الشرع. اهـ. قلت: وإنما حَكَمَ الحقُّ تعالى ببساطتها باعتبار ما يظهر للعين في ظاهر الأمر. والله تعالى أعلم.
وتوسيط {لكم} بين الجعل ومفعوليه، مع أنَّ حقه التأخير، للاهتمام بشأن كون المجعول من منافعهم، وللتشويق إلى المؤخّر، فإنَّ النفس عند تأخُّر ما حقه التقديم تبقى متشوقة مترقبة، فيتمكن عند ورودها له فضل تمكُّن، أي: بسطها لكم في مرأى العين {لتسلكوا منها سُبلاً فِجاجاً} أي: طُرقاً واسعة، جمع فج، وهو الطريق الواسع، وقيل: هو المسلك بين الجبلين، و{منها} متعلق ب {تسلُكوا} لِما فيه من معنى الاتخاذ، أو: بمضمر هو حال من {سُبلاً} أي: كائنة منها، ولو تأخر لكان صفة لهما.
الإشارة: تقدّم تفسير سبع سموات الأرواح، والقمر قمر التوحيد البرهاني، والشمس: شمس المعرفة، والله أنبت بشريتكم من الأرض نباتاً، ثم يُعيدكم فيها بالبقاء بعد الفناء؛ لتقوموا برسم العبودية، ثم يُخرجكم منها إلى صعود عرش الحضرة، والله جعل لكم أرض العبودية بِساطاً؛ لتسلكوا منها إلى الله في طرق واسعة، قررها أئمة الطريق من الكتاب والسنّة وإلهام العارفين ومواجيد العاشقين. وبالله التوفيق.

1 | 2